تعج قاعات المحاكم بالكثير من الجرائم التي يستنكرها أفراد المجتمع وخصوصاً الجرائم التي تقع بحق الأطفال التي تتحول إلى قضية رأي عام، وتتسبب برد فعل قوي جماعي يستنكر الجريمة ويدين فاعلها، ويطالب أجهزة العدالة والقضاء بإنزال أقصى العقوبات فيه ليكون عبرةً لمن يعتبر، ولكن ما العمل حين يكون الجاني من ذوي الطفل ومحبيه، بل هو والده وولي أمره والمكلف بحفظه ورعايته؟
هذا ما ألمّ بالطفل على (3 سنوات) الذي كان ضحية الغفلة والإهمال من قبل ذويه، حيث واجه الحرارة المرتفعة والمميتة وحيداً في سيارة والده، فتعرض لضربة شمس كادت تودي بحياته في ظهيرة يومٍ قائظٍ من شهر أغسطس من العام الماضي.
في تفاصيل الواقعة؛ يقول المستشار عيسى محمد سبت رئيس نيابة بنيابة الأسرة والأحداث، بأن الواقعة تعود حين توجه السيد ع.أ (33 عاماً،) لزيارة شقيقته بمناسبة عيد الفطر، مصطحباً معه زوجته وابنه الصغير علي ذو الثلاث سنوات، وأثناء تبادل الحديث بين الأهل بمناسبة العيد، انتبهت الزوجة لغياب ابنها فمضت تسأل الزوج عما إذا كان برفقته، فما كان منه إلا أن تفاجأ بسؤالها لأنه هو الآخر كان يظن أن الابن برفقة أمه.
وهنا بدأت عملية البحث عن علي، حيث لم تفلح الجهود في العثور عليه داخل المنزل وحوله، وما إن توجه الوالد نحو السيارة التي كانت أبوابها ونوافذها مقفلة حتى عثر على الطفل الذي كان في حالةٍ يرثى لها، إذ كان فاقداً الوعي على أرضية السيارة من الخلف ويعاني ضيق التنفس ويتصبّب عرقاً، وذلك بعد أن مضى عليه أكثر من أربع ساعات وهو يصارع الجو اللاهب ليبقى على قيد الحياة.
كان مشهد الطفل صادماً دون شك لذويه، لكن الوالد الذي استوعب الصدمة، سرعان ما اتصل بالإسعاف التي حضرت وأجرت الإسعافات الأولية للطفل ومن ثم نقله إلى مستشفى لطيفة حيث أدخل بقسم العناية المركزة لكونه يعاني من صعوبة في التنفس، وتم فتح بلاغ ضده بتهمة تعريض حياة طفل للخطر.
وأضاف رئيس النيابة، أن الطفل أدخل قسم العناية المركزة ومكث فيها لمدة خمسة عشر يوماً، وبعرض الطفل على الطبيب الشرعي قرر أن الطفل تعرض لضربة شمس أدت لفقدانه وعيه، ومعاناته من التشنجات وتكسر البروتين العضلي، وما صاحب ذلك من خلل في وظائف الكبد والكلى، ونقص الأوكسجين في الدم. كل ذلك تسبب في إطالة أمد الشفاء لأكثر من عشرين يوماً.
وقد أوضح تقرير الطب الشرعي أن درجة الحرارة داخل المركبة المغلقة قد ارتفعت من 55 إلى أكثر من 77 درجة مئوية خلال ربع ساعة، بينما كانت خارج السيارة 33.9 درجة، وأشار التقرير إلى إمكانية أن تؤدي ضربة الشمس إلى ارتفاع في حرارة الجسم وتلف الدماغ ومن ثم الموت، معتبراً أن ما ألمّ بالطفل ناجم عن الإهمال، وإن كان قد شفي تماماً بعد أكثر من عشرين يوماً.
وعليه (والكلام لرئيس النيابة) فإن الواقعة تشكل جنحة التسبب بالخطأ في المساس بسلامة جسم الغير، ما يستدعي إحالة الأب إلى المحكمة الجزائية لمعاقبته جزاء إهماله، إلا أن النيابة ارتأت أن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية آخذةً بعين الاعتبار العلاقة الأبوية التي تربط بين الجاني والمجني عليه وضرورة الحفاظ على أواصر تلك العلاقة، وكذلك خلو صحيفة المتهم من أي سوابق إجرامية، علاوةً على شفاء الطفل مما ألم به نتيجة الواقعة شفاءً تاماً.
لذلك أمرت بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية بحق المبلغ والد الطفل لعدم الأهمية، آخذةً بعين الاعتبار الاعتبارات الاجتماعية، وأن التجربة التي عصفت بالعائلة كفيلة وحدها بأن تكون زاجراً ورادعاً تمنع الوالد من تكرار إهماله في المستقبل.
وشدّد المستشار سبت على أن الإرادة الإلهية واللطف الرباني في نجاة الطفل من أية عواقب حالت دون تقديم الوالد للمحاكمة، وأنه لو كان الطفل قد تعرض لعاهة مستديمة أو الوفاة لا سمح الله، فإن مصير الوالد حينئذٍ سيكون مختلفاً، وستكون معاناته مضاعفة بالنظر إلى العقاب الذي سيفرض عليه والمصاب الذي لحق بولده، ناهيك عن معاناة بقية أفراد العائلة.
ويأمل رئيس النيابة أن يتعظ الآباء والأمهات جميعاً من هذه الواقعة، خاصةً وأننا مقبلون على فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجة الحرارة، بحيث تشكل خطراً جسيماً على الأطفال فيما لو تعرضوا لها، داعياً إياهم إلى أن يولوا أبناءهم اهتماماً أكبر لاسيما الصغار منهم الذين لا يملكون القدرة على التعبير ولا يدركون المخاطر، وذلك لتفادي مثل هذه الحالات التي قد تكون عواقبها مأساوية على العائلة بأكملها. كما ناشدهم بتقديم التوعية المناسبة للأطفال ما أمكن، والتي من شأنها أن تسهم في رفع مستوى إدراكهم للمخاطر التي قد يتعرضون لها جراء تعرضهم لأشعة الشمس المباشرة أو حرارتها المرتفعة لأوقات طويلة.